افتتاحية مختلفة

مدونة السمت والأشواق

عرفت، من عدة ملابسات وحيثيات سابقة وأخرى طارئة في الوضع والأحوال، أني مقدم على أمر خطير، أو على الأقل ليس هين الأعطاب: أن تبذر البذرة لا تعرف بأي ماء تسقى ولا بأي أرض تموت. بعض الناس يختار التجارة في متاع شائع ورزق معلوم (قليل أو كثير لكنه لا محالة وارد). وبعضهم يلوذ بتراب الأرض الفائح بمخزونه، ميراث كفايةٍ لا يُستنفذ ولا يتقادم (للصلاح والفلاح وتطويع العناصر النائمة). وبعضهم يختار السياحة (في أرض الله الواسعة). وبعضهم بمجدول الأناقة يتحزم (للنجوم ثياب يضيئون بها). والبعض الآخر لا يموت ولا يحيى إلا لكي يعتق الرقاب بالشهادة الوافية (نحلة من ورع آخر تخضر منه الشفاه والأوراق اليابسة). والحذاقة صنعة الفم والعيون والأيدي (مهرة جامحة). وللحجابة أهلها الضالعون (يتوسدون المكائد)…أما أنا فقد اخترت، دون السواد، زراعة الشقوق (في يدي بذور الخوف الواقف أمام بياض الأوراق فبل استقامة الحروف النافرة). وإنني بلا روية وقد باشرتُ الزراعة بعد حفر الشقوق ابتداءً، مقتربا بذلك من شفا الحفر والحافات. وفي الأمثال التي لم يفسد صدقها “من حفر حفرة وقع فيها”، وفي رواية أخرى قيد الإنشاء والنشر “ومن الحفر ما قتل”.

أمر خطير إذن، ولكنه يكاد يقترب من فائدة قديمة غير معممة: “وداوني بالتي كانت هي الداء”.

أمر يخضع لجبريةٍ شخصيةٍ قاهرة، ولسلطة مشهود لها بالنصر هي العشق، ولا يخلو من جنون الأشواق والتباريح.

ومع ذلك فكل خطر يهون أمام خطر أكبر منه. لذلك، بعد أن تمثلت المحدق بي وبزراعتي من الآفات والخسائر والأخطار، واجهت أو واجهني خطر الاعتراف: أي أن تفرق في المطاحن العمومية حبوبك البيضاء والسوداء، أما البيضاء فلا يراها لديك سوى الغرباء والخاصة من أمثالك. وهل أنت مدرك ما أنت فيه وأنت تنشر على الناس عجين حروفك وغسيل أيامك ومطبخك السري ورائحة الحرائق والأخطاء؟

وبعد ذلك واجهت خطر البلاغة من جهة اشتباه التداوير والأساليب التي تلف النوايا بالمعانى إيضاحا أو كناية أو سبيل توسط وتوفيق.

وبعد أن اخترت في ما يشبه اختيار الإكراه -بعد اعتقادي بضرورة الحسم في ما بدا لي- راعني وأقلقني تداخل الأشكال واهتزازها وعدم استقرارها. اقتربت منها جميعا في البداية ولامستها، ثم أمسكت بها في يدي وشاكستها، فاستجابت لي وأصبحت مطواعة ومتجاورة، ثم أصبحت مائعة، ثم أصبحت متفككة ومتحولة، كأنها مهاجرة أو هاربة، أو كأن بها سحرا سليمانيا يحركها. ليست الأشكال وحدها التي تملؤني دائما بسحرها الذي لا يقاوم، ولكنها يدي الممسوسة بالسحر أيضا ما يحول الأشكال والأشياء.

اعتبرت أن لا سبيل لي للخروج من هذا الدائرة المغلقة إلا التحرر من وهم نقاء الشكل وسلطته. لذلك، وفي ما يشبه التحول إلى طرف نقيض، انتقلت من نقاء الشكل ولوازمه إلى نقاء الفؤاد وتوابعه (من الحواس والأعضاء والجوارح والملكات). نعم هو الفؤاد، وفي ما يشبه تصحيحا لخطإ شائع، فالفؤاد -عندي على الأقل- ليس هو القلب أو العاطفة حصراً، ولكنه مجموع الملكات والقوى.

هل استطردت هنا؟ لا بأس، ولا مانع من ذلك عندي إن كان سبيلا إلى الإيضاح، أليس ذلك هو مناط الخطاب هنا؟

لكن ماذا حدث بعد أن تحولت عن تفكك الأشكال أو امتزاجها إلى جماع الفؤاد واعتمالاته؟

شاقني في بهاء الشمس والهواء أن أخرج من عادات الليالي، نافضا في غبار الرحيل ألواني القديمة، راكبا خبب الروح وأفراس البداهة. شققتُ عني سديم العلو السامق بأحزمة الغبطة والقبول. عن أطرافي فككت حصار النهار والليل، بينما أمشي مثقلا في خنوع لروافد الضوء التي أزحف نحوها. آنذاك احتجت إلى أعضائي كلها، وإلى الدهر الممتد أمامي كالسماء، وإلى ترجمان أشواقي وأنا أتقدم صوب الآخرين بشفاه الظمأ. قلت خُلق الشوق والذي كان كان. كان الشوق فما حيلتي؟ قلت أستظهره وأترجمه إذن وحدي: ذرات في الأثير، حروفا، أرقاما، موسيقى، أو محض تهاويل للمحو يرشح منها الضوء ويختفي. قلت أحك جلدي بظفري وأدميه، ما لجرح دام إلا أن يندمل.

ثم ابتدأت حكايتي أو بالأحرى استأنفت سيرها مهرولة نحو الشقوق والحفر والأخاديد العميقة والسطحية، ونحو منعرجات الضوء الناتئ حولها.

في البداية لم يصدق جل من عرفني عودة شوقي إليهم بعد موته وبعد طول غياب. كلهم تناقلوا الخبر بين مصدق ومكذب: هل يعود الشوق لمن مات فؤاده ودليله؟ هل يعود للمشتاق زمانه ومكانه؟ ماذا ينفع فتى تداول أسبابا وتداولتْه مكائدُه؟ هكذا تكلموا وتساءلوا.

لكنْ مهلا، إنَّ غداً لناظره قريب. ها أنا قد أوقفتُ فانوساً أبيض، وعلقت تذكاراً في مجمع العاطفة. وقبل هذا نسيت وتناسيتُ، ثم استذكرت فهزتني التماعات من صوىً محجبة فاصطكت عليها محاجري. ذرفت دمعا من أحماض غزيرة. شاقني قبل الخروج دخولي مهد الحضانة كي أتخلق. تفقستُ فهل لي من قماطكم ثوب للضراعة أو للاحتفال؟ هكذا اختلجتُ وتساءلتُ.

فهل تصدقون يا إخوتي وأحبتي؟ يا أصحابي ومعارفي، يا أهلي ومجتمعي؟ وحتى أنتم أيها الناس، يا خلق، يا بني آدم، ألا تصدقون أن النفوس والأرواح عزيزة، وأن ماء الحياة غزير، ووقت نضوب الآبار قصير، وشوقي لا تحمله الجبال وهو يمشي إليكم حيث أنتم لا تبرحون دياركم ولا ملاعبكم؟

ألا يمكن أن تصدقوا ذلك للوهلة الأولى؟ هل لأن سمتكم الشك والمحاذرة، أم انعدام الثقة وسوء النية، أم قلة الإيمان؟

وقد كنت وما أزال لا أطلب منكم موقف التصديق إلا بعد إثبات ما أود إخباركم به، أليس ذلك هو الصواب؟ فما بالكم حتى بالأدلة ترتابون؟

لكنْ هبْ أني كاذب عليكم، فما غرضي إذن؟ هل هو أن أسود الصفحات دون معنى؟ إن كنت كاذبا فاكشفوا كذبي أو مغرضا فاكشفوا غرضي أو خديعتي، وليكن بيني وبينكم ميثاق غليظ ألا يمكر الواحد منا بالآخر حتى لو تبين له مكر الأول، تسامحا لا زلفى، إلا أن تستطيعوا السبق إلى المكر بي سبقا ظافرا يرفعكم أمامي، بإثبات أني لا أحبكم، أو سوء ظني فيكم، سامحني الله إن كان ذلك في القليل النادر ساعة اللاحِلم وخيبة المسعى. فهل -مع ذلك- تسبقوني إلى جمال السمت بإكرام وفادتي حدبا سابغا على أحداقي، وعلما نافعا لقرائحي يفتح صدري ومَضايق روحي، إن فتح الله عليكم بشيء من الأفهام والفطنة والبيان؟ أم تراني، بالشوق العائد إليكم في رقص أقلامي، قد سبقتكم إلى قصب الطريق ووهجه حافظا لكم نسبي إلى الماء لا إلى سقط الرماد؟

أما أن تقنعوا بالنميمة بينكم، فذلك ما يضعفكم أمامي، وحذار من الظلم إنه كان كفرا بالحقوق وساء سبيلا.

لكن أبعد آمالي وبالغ رغبتي هو أن تسمحوا لي بالإصاخة والاستماع، فأنا لست بلاه ولا عابث، وإن فعلت فهل ستنطلي عليكم الخدعة؟ وهل أقدر عليكم يا بني آدم وقد حيرتم العلماء والحكماء والمصلحين وأولياء الله والرسل والأنبياء؟ هل أستطيع اللعب معكم حتى أستطيع اللعب بكم؟ إني لو طلبت منكم أن تسمحوا لي برقعة صغيرة ألعب معكم فيها، فإنكم ستتأففون مني مسبقين مشاعر الحذر والحيطة والخوف من احتمال تمكني من شيء ما، إلا أن يكون في ذلك خير لكم فتمسكوا بي بالعشرة من الأصابع كأن لم تكونوا يوما خائفين؛ بدل الله خوفكم أمنا، فنحن نلقي السلام والأمان عليكم في كل حال؛ لكنكم عموما لن تقبلوا الغرباء والمخصوصين بالحِلم مثلي بينكم، وستواصلون وصفي بالغريب والدخيل والغازي والمزاحم والمنافس والعدو والخصم والغريم، وبأني أجعل نفسي ندا لكم، أو أني أريد أن أسحب ما أتمنى -والله- أن يكون بساطا لا حصيرا من تحت أقدامكم، وبأني أقل كفاءة منكم، إلى غير ذلك من النعوت؛ ولكي أبقى بينكم عليَّ -في شرعتكم- أن أتملقكم تارة باسم البحث عن الشريك وتارة باسم البحث عن الحليف، أما باسم الحب والصداقة والدين والأخلاق واحترام القانون والحقوق والالتزام بالقيم والمبادئ والمثل العليا، فلا أريد هنا أن أعرض شيئا من مثالبكم، وأعني بها سواد الهباب الذي يسد عين الشمس منكم؛ لكنني مع ذلك لست شامتا فيكم ولن أكون، إذ كيف لي أن أشمت فيكم وأنا منكم.

لكن ما يميزني عنكم هو ربما فضيلة اعترافي الآن بالأخطاء (ابتداء) وبالحق (انتهاء) أمامكم، ولا ضير في ذلك، ولا خوف عليَّ من هذا النزول الصاعد نحلةً ترابية مخصوصة للحِلم ولازمة لسيرة البهاء. ودليلي أن المناقب تسعى وأسعى، وتكاد تطوقني بغيومها، وأنا الحاضن في وجعي فسيلة الشوق أبغيها على الخصاصة بستانا لكم أو مطرا لحقولكم وغيمة للنازفين. فهل بعد كل ذلك أنوي مغالطتكم أو الإيقاع بكم أو خداعكم؟ وهل أقدر على ذلك كما قلت؟

وفوق ذلك هل تعلمون أني مريض، وأن خير البر أن تلقوا إلى العليل يدا كريمة ودعوة بالشفاء؟

نعم مريض بالشوق والفاقة والحنين، أفنى عن ذاتي العزيزة، وأفنى عن رسومي وألواني، وتفنى عني سلطاتي. أحتجب احتجابا كي يكون لي ذلك عادة ومقترَبا كعادة الشمس حين تميل على نفسها طواعية. وأتضاءل في الجاذبية، كي تكون كينونتي في المابين حافظة ومحفوظة، بينما الجاذبية تهدر في اللامكان وتأخذني إلى سدة لا تُرى.

هل أظل معتصما بأسواري القديمة؟

أكاد أسمع زلزالا يدبر لي خضة الموت والميلاد، وحائط النار يرجه ماء جارف وعصف في القرار، حثيثا يتضاءل في الذبالة ثم يفنى. أكاد أسمع خلخلة وأصداء وأمطارا ورعدا، غير أني أسمع في طرف القلب من جهة الربيع والأغصان هديلا يكبر في الحدائق والأنهار النائية.

مريض بالشوق والظمأ الغريب، فهل في حدائقكم ماء للعابرين من السبيل؟ أم ماؤكم أجاج وأعشابكم وحشية وآباركم الغريبة تخلع شهوتي، فأشتهي ولا أشتهي وأظل ظمآن ومعتقَلا أفنى عن رسومي وعن ذاتي؟

بهذا تعلمون ثم سوف تعلمون أني مريض، وأن خير الإحسان أن ترهفوا السمع إلى أنين الجوارح والضلوع.

لكن ذلك لا يمنع من نقدي ولومي، إذا تجاوزت الحد الفاصل بين الشفافية والاشتباه أو بين الصفاوة والغبش؛ فأنا وأمثالي -كثرا أو قلة- نروم في العادة الصدق لا نحيد عن نهجه إصحاحا تاما في فقه الفؤاد الموطأ بتعاليمه، ولا يكذب فينا الواحد إلا في الملمة القاتلة أو في الشدة القصوى حفظا لماء الحياة، لا دونه ولا فوقه.

نعم مريض، ولكن قلبي يناوش في الظلال خياله، يسوس أو يطاعن أحصنة الظهيرة أو غزالة الشمس. تجتاحني في واحة الصمت رائحة الميادين والمعابر والمضايق والثغور. إليها تطلبني المراصد وإن أدمت مقلتيَّ العاهاتُ بالفتك فيَّ من جهة الضغائن والغبار. لعل أقدامي حين تلمس أرصفة القلاع والقصبات، وأنفاسي حين تشتم رائحة البحر وأبراجه، تشربْنَ الماء والهواء بين الخوف من أبوابها، ودهشةِ الأسوار الماثلة.

بعد التهجي المُعاد بالشغف المُضني على خطوط صلصال المحو والإنشاء، قرأتُ كتابي في اللغات والميادين حين تشتق من بعضها، فآخيت -بعد الولادة والتفرق في الأنساب- بين الشعراء والأحزاب، بين النساء والنحل، بين المجادلة والأعراف، بين الانشقاق والشورى، بين البلد والماعون، بين الزخرف والحديد، بين المائدة والأنعام، بين الكهف والشمس، بين النمل والعنكبوت، بين القلم والفجر، بين الممتحنة والإخلاص…

مثل سيرة من يرى الضوء قبل التماعه، أو على طريقة أخرى لا تشبه غيرها كما لدى زمرة الرعاة قبل اليفاع أو الأرضياء أو رهط الغجر في الجبال لا في السهول، حفظتُ التداوير التي تلف قلبي بياضاً يُطرّز أُبَّهة القامات.

سائسا أعضائي حين تمددها في الخارج المسافات والأبعاد، شاركني في الحزن تمَامُ الشعر، والأنفاسُ التي تحرسه، ورعاته الحافظون بأسهم، والزارعون قبل الغيث ودونه، والناسون رهافة الأعضاء.

بلا مقدمات أو روية أو هاجس قد اخترت لكم حرفة الزراعة كمن اختار لكم اليوم من العادات العتيقة دم الحجامة والكيّ عُدةً وعتادا وميراثا كي يُسلس الجسد القوي/الضعيف قياده لتمارين العَدْو في مرابض العشب الصناعي والمستحدث من منتزهات الرفاه.

هل انتبذتُ سهب الأقاصي؟

هل اختلفت عنكم وعن نحلة السواد منكم؟

وكيف انتخبت دونكم طعامي وشرابي ودوائي، وأنا منكم؟

إليكم مفانيح أقفالي: إنها لا مذهبة ولا مفضضة، وهي غير ذات نفع لمن هو منكم ضاوٍ أو طاوٍ أو شاوٍ جلدَه بالحديد الساخن، فلتعلموا هذا كي يكون تنافسكم على الأفضل، لا على زراعة كدها كثير وعسير، ورزقها قليل معلق على باب الغيب والمجهول.

ظهري مثقل منذ الصبا بأحمال عشقي المشبوب للكلمات. من فرط عاداتي في السير المهرول نحو أوهامي، تكاد تفلت مني حبات غلالي، وهي في السلال التي أملكها لا فائضة ولا غائضة، مزجت بها غير آبه بين زرعي الحائل (ومنه بعض أوابد الكلام)، وبين ما تيسر لي من جنى الحقول (بعد ارتفاع منسوب الطمي الجديد المغذي لروافدها الكبرى).

لا أعرف من أدركته الحرفة منكم، أو من يكون قد اصطلى بنيرانها. ولا أعرف هل أنتم أو سوادكم في ذلك، عنا نحن معشر حُفّاظ هذا السمت، تختلفون؟

يظهر لي الآن أن الأهم في هذا المقام هو طلب المعذرة: عفوا إن كنت أسرف في القول والشهادة حين أكلمكم هكذا عن سمتي وخلتي، عن سلالي وغلتي، عن عشقي وعادتي، مؤملا أن يكون الصدق مناط الخطاب هنا، وكأن الشهادة وحدها تكفي، أو يمكن أن تكون مدعاة للتصديق أو لاسترداد الثقة الضائعة؛ إن ذلك يحرجني كثيرا أمامكم، لأنني لا أعرف في الواقع صدقا أو كذبا إلا وقد تبَطَّن أحدُهما الآخر أو لبس لباسه في وضوح النهار أو في عتمة الليل، ومع ذلك يُكرهني منطق الخطاب أن أتوسل إلى إقناعكم بشيء ملتبس كهذا، ومن أكثر الأشياء هلاميةً، وأقلها تحديدا، وأبعدها عن الإقناع، فهل بذلك أبدو لكم وكأنني بلا حياء، أم أنكم للضرورة تعذرون؟

 لكنْ عسى أن يكون حرجي الشديد أمامكم وأنا أتحدث عن صدقي(أو كذبي) سبيل عافيتي واستقامتي الأخرى: أن لا أحاول -على الأقل- أن أتبرأ من أخطائي أو أبرر أوهامي أمامكم، أو أخفي أسبابي عنكم، أو أدفع بعظاتي نحوكم مثلما يفعل الكثيرون منكم.

ألا ترون ماذا أصنع من ضلالاتي وأوهامي؟ بقيةً من رؤى عرَّتْ سريعا عن عيوني الأقنعة. وأسبابي مياهُ الغزارة يحقنها النهر الحاضن لأسراركم، في نواتها القريبة حمضٌ جينيٌّ لدم مصاب بالتلوث يبحث عن مصافي، وفي دوائرها البعيدة ذراع أشجار طويلة تراود حلمَ كل شاردة من النجوم وترجعها رياح الحنين إلى أغصانها. رداؤكم نقي وخبزكم مستطاب والماء في جراركم سائغ، ولكن خيمتكم رمادية يثقبها الهبوب سريعا، وتبحث عن أوتاد لا تُدَق في الأرض ولكن تُعَلَّق في الخطوات وهي تهرب للمدى كي ينعشها هواء السير وتجري بها رياح الرحيل.

عاندتُ نحوكم شهوة الكلام المثقل بالعلامات. مجَّدت السهو والأخطاء قليلا، واستكثرت أن أعظ البحر بأمواجي لا بأمواجه.

والأخطاء ما لها الأخطاء؟ فهي ليست كما تنظرون:

خطأي حقيقتي.

خطأي صنيع يدي وأعصابي.

خطأي الحلم والرغبة والتردد والغواية والخوف.

خطأي الحرية والاختيار والبحث والتجربة والانتظار.

خطأي الحب والانفعال والدهشة والمغامرة والاكتشاف.

خطأي الشك والالتباس والمعرفة والحكمة والسؤال.

خطأي العجز والحزن والاختلاف والغرابة والاعتراف.

خطأي ملح الأرض يشعل قنديلا في شراييني، يسقيني وأسقيه لا كالرماد تذروه الرياح.

خطأي وجع يُمضُّني كي أقوم مفتشا عن جدار يصلب قامتي.

والحقيقة ما لها الحقيقة؟ فهي أيضا ليست كما تنظرون: مسكينةٌ لا تهدي ولا تهتدي. عمياء تحتاج إلى الضلال كي تفتح عينيها. جسد بلا مفاصل أو أطراف. قلب بلا روح دافئة.

هل تعرفون النصيحة؟ من منكم جرب النصيحة؟ من منكم ممن جرب النصيحة لم يخطئ؟ هكذا هي الحقيقة دوما، مثلها مثل النصيحة، طريق الخطأ الذي يقتل، بينما أنا أحتفي بأخطائي التي تعيد إليَّ الحياة (من جهة الدين، ومن باب التأسي بسير المناقب والأعمال  الخيرة، أوقفْ فؤادك ولسانك ما استطعت على النصيحة إن كانت سبيل تربية وتهذيب وإصلاح، ولا عليك من شيء إن وجدتها تمر ولم تطرق باب الآذان  اللاهية، أو لم ينتفع بها السواد من ذوي القلوب الحائرة).

كأنكم بي تسخرون! إيه من زمن يعود فيه الناطق بالحق والصدق كمن يحرث في الرمال، أو كمن يقذف نحو العيون كابوسا، زمن لا تقتنعون فيه إلا بما يدهش العقل ويبلبل الوجدان، وقد ابتليتم بأضعاف ما كان لغيركم في سالف العصر والأوان من كل ما تحبون وتشتهون فتنة لكم بالخير والشر في الأموال والنساء والأولاد، وحيرة في العقول والمشاعر والأبدان (كل زمان يقول فيه دراويشه والطاعنون في الغيظ والقابضون على الجراح ما أقول وأكثر مما أقول): ابتليتم -مع الجهل والفقر في مضارب الشمس- بالشيخوخة المبكرة، وحمى الدمامل، وعاهات الأعضاء الحيية، والمال الأبيض والأسود، والقروض المارقة بين الأصابع، والأسلحة العمودية والأفقية، والمدن الملوثة القلب والأمعاء، والزحام بالعرق المالح والمر، وحرب العجلات المحروقة، والمخدرات بكل روائح ولغات العالم، والإشهار بالأثداء الناعمة والأيدي الآثمة، والفيديوهات المجنونة، وأفلام المستقبل المرعب، وهندسة العناصر، والذكاءات الخارقة، وفتنة العوالم المقلوبة، والاقتصادات السرية، والمواد المجمّدة والمصبّرة والمعقّمة (بالفتحة والكسرة)، وفاكهة ما قبل الأوان، ومنتجات ما بعد انتهاء الصلاحية، والتهريب في كل شيء، والمقايضة بكل شيء، والجريمة غير المنظمة، والعنف والإرهاب في القمة والقاعدة، والهجرة السوداء والبيضاء، وأمراض العصر الإلكتروني.

لهذا فإن سواد الناس منكم لا يستأهلون بياض الحياة الدنيا وزينتها، لأنكم مبتلون بالخوف والقلق والشكوك، ومثقلون بآفات الجشع والظلم والحروب، ولذلك ليس لدائكم دواء، إلى حين ربما، وإن عثرتم على الدواء فصفوه لي، ألم أقل لكم إني مريض؟ فهل تتذكرون أم أن آفة النسيان تنغل في عظامكم؟

أما أنا فلست ولم أكن يوما بناسيكم رغم كل شيء عرفته عنكم، إذ ما حيلتي وبيني وبينكم شعرة لا ترتخي أو تنقطع، صحيح هي أوهى من كل شيء، لكنها أعمق من المحبة وأكبر من النفع، لأنها أقرب إلى حقيقة الشعور بالذات أو وهم المشابهة: أنتم شبيهي ومرآتي المخدوش أديمها، أرى وجهي البغيض فيكم، لذلك إن لم أستطع محبتكم فأنا لم أستطع كراهيتكم بنسياني لكم أو مقاطعتكم أو امتناعي عن مخالطتكم، رغم اعتزالي وابتعادي عنكم بعد تجارب في الحياة ثرة وعميقة أحمد الله عليها، واختبارات قاسية تقصم الظهر أحمد الله على السلامة منها، بعضها كان مناط اختيار وبعضها كان مناط اضطرار.

لذلك فضلت -أو على الأصح لم أقدر على- الاقتراب منكم قبل الابتعاد عنكم بعضا من الوقت كنت ما أزال أجهل تقديره ومداه، إلى أن أحسست بشيء في داخلي يتململ أو يعتلج. فكرتُ وقلتُ في نفسي: هذه حالة غريبة حقا، فيها شيء من الحزن الشفيف، ولكنْ فيها أيضا شيءٌ من الرغبة والشوق الغامض.

ولا أعلم من أين أتتني القناعة بأن هذا هو وقت الخروج إلى الشمس. صحيح أنني أخرج من منطقة الظل باردا يخضر دمي من عفن الرطوبة، لكنني لم أنو التراجع عمَّا بان لي، فقربتي مملوءة، وكيلي على وشك أن يطفح بالذي فيه.

وساهرا كي ألملم بالقناعات الجديدة أمتعتي، وأعيِّن أرقامي وأسعاري، كان عليَّ رسمُ خرائط واتجاهات لا بد منها. قلتُ: هذا وقت الخروج بصفتي وتعييني (في سوق الذوات والصفات والأصوات والأشكال). قلت: أفتح شكلا ليس له بالضرورة أن يغلق. قلت: أفكر بصوت ليس له بالضرورة أن يرتد إلى قفاي أو داخلي، بل يخلق دوما صداه المصادر من قبل الآخرين. قلت: أرسم رسما ليس له بالضرورة أن يكتمل، هل اكتملت بحلمها الرغباتُ؟

هكذا يحلو لي أن أشرح لكم خروجي فيكم/إليكم وعليكم في هذا الوقت بالذات، وقبل ذلك ابتعادي واحتجابي عنكم الذي لم يكن كراهية أو حقدا، ولكنه كان تأملا وتفكيرا في أمور الدنيا وإنسان هذا العصر، وانتظارا لنضج أفكاري واختمارها -كما يقال- تحاشيا لانتقاداتكم التي أعرف أني لن أسلم منها على أية حال.

ولا أزعم – مع شدة يقظتي وتأملي- أني  فهمت كثيرا ما رغبت في معرفته، وحتى إن فهمت فإنني أحوز الفكرة لكنْ في الغالب تعوزني الوسيلة. كما لست أدري هل ازدادت أفكاري رصانة ونضجا أم ازدادت سماجة وحزنا. لذلك لا تنتظروا العجائب من عزلتي المنتهية أو من رحلتي المبتدئة؛ لن أستطيع إتيانكم بالخرز الملون والأصداف والدرر النفيسة، لأن عهد السندباد انتهى ليصبح بإمكان كل واحد منكم أن يكون سندباد نفسه.

لكنني مع ذلك، أي مع فاقتي وعلتي وارتخاء مناكبي، لن أساعد أحدا منكم على الفرار من الجحيم إلى الجحيم. لن أساعد مزن السحاب كي يرحل عن مراتعكم، ولن أساعد أشجاركم على الموت قبل الخريف (حياتكم علامة لا قيامة)، ولن أسمح كي يصبح حضيض السفح قبرا للنسور التي تأبى إلا في الذروة الشماء إقامتها ومماتها (إن فعلت هذا ف”اغضبي يا ذرى الجبال وثوري”).

شغفا بالنهار استولد نبض أعضائي من بعضها قبل أن تمضي الخلايا إلى السبات. وبالليل أستوقد ناري على غير عجل وحدي. وعن النساء، وأعني انعطاف التكوين إلى سماء بيضاء شارتها الهبوب، وإلى رفرف آهل وحده بالمتاع وآيل وحده إلى سمت الحس والتذكر والخيال، أقيم من فسائل الشوق عرسا خصوصيِّ الأمارة لزواجي مع الكلمات من أجل أسماء أقرأها دوما في كتاب، ومن أجل ماء فائق الندرة ينضح من غدة الترائب، ويهسهس دوما في الليالي.

على أني وإن كنت أرغب في أن أكون في حضيرتكم وبين ظهرانيكم، فأنا لا أود مزاحمة أحد منكم. رقعة الشطرنج أعرف أنها ضيقة، (ظهر الحمار قصير لكي يسعنا نحن الاثنين كما يقال)، وما أقصر العمر حتى نضيعه في نزالات الوهم الخائب بيننا: عاش الوهم نسيج الحياة ومات ما يأتي منه عاقبة سوء إذا عُدَّ ما ليس هو، وعُدَّ حقيقة تفقأ عين صاحبها بخسارة الأنوار.

إلى ذلك أبشر منكم أول طائفة لا يسعها البحر وأطرافُه بأني لا أنوي –ولن يتأتى لي في مظنوني وتقديري على الأقل– أن أكون شيئا مهما أو خطيرا (في حفر الشقوق التي بدأت للتو في زراعتها) ولكنني لن أتوقف بالرغم من ذلك، ومن كل شىء عرفتُه عني، وعن الحقل الذي أجر إليه أقدامي. السمت هو هو ولا سمت لي إلا هو.

وأقول لكم لن أكون كبيرا ولا ألمعيا ولا نافذا، لا لافتقاري ربما إلى عتاد المعاول والمحاريث، ولا إلى مسطرة الخرائط والبوصلات، ولا إلى رسم هندسة الحقول الواسعة. إنما أنا افتقاري ربما إلى عتاد المهارات الجامحة: على ربوة الشهرة والمجد، من جهة المتاحف والمواسم والكرنفالات، قد يكون إكليل البراعة والحذاقة فوق الرؤوس باذخ الزخرف وملتويا يأخذ شكل أفعى أو أفعوان، وقد يكون مذهبا أو مفضضا، ولكنه في الضوء الفارز هيئة الرؤوس والقامات كثيراً ما يُخطئ عنوانَه بدداً. وكم يحلو لي نعْتُ الأشياء بأنها التداوير التي تلف نفسها بألوان المراسم حين تختص بثلاثية الأصفر والأسود والرمادي، والتي تشق لنفسها الطريق القصير في البحر ولا تبتل بمائه؛ فهل لذلك احتمال ابتلالي أنا بالماء القاعيّ أو -على الأصح- احتمال موتي الباكر بالسقوط، أو إسقاطي بالأحرى، في المهوى السحيق للحقل أو آباره السفلى؟

وفي اعتقادي إن هذا اذا حدث سيكون أمراً مريعا وخطيرا بكل المقاييس البشرية، ولكنه سيكون أمرا حتميا، أي خارجا، إلى حد كبير، عن حدود عقلي المنطقي وإرادتي الواعية، وإن كنت لا أجهل تماما وصفه أو أسبابه ولا العاقبة، الا إذا اعتبرنا الأمر ذاتيَّ القرابة والمعنى، وأنه يعود إليَّ في البداية كما في النهاية من حيث ارتباطه بالخيارات وأصحابها في مسالك الأعمال والصنائع والفنون، وعلاقتها بالطبائع والنفسيات والمسلكيات والأدوار. ولكني أقول مع ذلك -وعلى هذا الصعيد- هل الخيارات اختيارات وحريات، أم جبريات وحتميات؟

لكنني على صعيد آخر، ألا ترون ماذا أرى؟ هذا الحقل الساحر -لو تعلمون- يظهر لي على المرأى البعيد للعين مخصوصا بتضاريس العلاقة بين النهر ومنحناه، بين الأشجار وأدغالها، بين الأخاديد ولذغاتها. كالمزارات المنسية موحش بفاكهة الصبّار وأعشاب الحسك البري والسدر والحدج الخلوي والجيوب الأرضية النازفة.

أخاف في مهواي ذاك أن يأخذني الحُلم إلى نفسه، والكلامُ إلى دوخة الرأس المنحل في الرعشات. أخاف على جسدي من الشظايا حين تُبيِّتُ لي الحروف نواياها. أخاف أن تسرقني الكآبة وأن يهزمني الضوء وتستدعيني رائحة العرين إلى الوحدة والفراغ. قريبا من الليل الغاشم، وأنا أصعد كالطيف المفضض في سلالم الغيم، أخاف أن تغلبني النسور والهوام في السفح لا في ذرى الجبال على غنيمة صغرى. أخاف، من جهة الودائع التي يخبئها القلب حراسة للضوء، أن أمضي إلى حرائق النكاية والصامت من السراديب والأقبية. أخاف أن تكون سلامتي -لا زرعي الحصيد- أول الشجعان أو أول الناجين، وأن ترميني المعارك إلى هزيع الرهبة والسهد منصتا لهدير عظامي. أخاف أن يتملكني عبداً خديمَ سيِّدِهِ ذلك الصمتُ الباذخ بالمتاع، والفادح بغياب المروءة. ودون ذلك أخاف أن أفعل بآذانكم كالطبل، وأن أستعري القامات، وأن أنتهي إلى خريف اللغات والرهَج الأرضيّ مُضاعا ومنسيا.

لا خوف عليكم مني إذن حين لا ألم أعضائي وقت الحاجة، وحين تهرب مني المآدب والمرايا والمطابع والمنابر والمنصات والمواقع والفصول، وحين يتفرق عني الساهرون بأدب أو بغير أدب، فأمضي إلى تاريخ الأرقام المهملة والنكرات وسقط المتاع. لذلك أقول انشروا بيارقكم أو نمارقكم إلى حدود المسافات التي لا تراها مني العينُ الكليلة ولا يطويني منها سوى الغبار. فلا تتوجسوا، كفاني دونكم الغبار.

 ثم –رفعا لسر ما- كفاني ما أنا فيه من عذاباتي الصغيرة أو همومي الكبيرة أو أوهامي وحقائقي، رغم أنني لم أتوصل لحد الآن إلى حقائق، ولا أنوي الوصول إلى ذلك بإذن الله، كل ما في الأمر أن أوهامي وضلالاتي أصدقها وأحولها إلى حقائق أركن إليها بعض الوقت، وسرعان ما أنقضها وأحولها بدورها إلى أخطاء أو أوهام، وأسرج حصاني- أو حماري- باحثا عن حقائق جديدة أي أخطاء وأوهام جديدة؛ كل ذلك ليس لصفاقة مني، ولكن لاعتقادي أولا أن ذلك واقع وقانون متحكمان في حركة الفكر والفعل الإنسانيين، ولاعتقادي ثانيا أنَّ ذلك إن لم يُصِب فهو على الأقل ينفع دنيا وآخرة، وما أحوجنا إلى النفع ونحن الضعفاء، فكلما عجزنا أو ضعفت حيلتنا، مرضنا أو ظلمنا، بدأنا نكبر أو تقدمنا في العمر، كلما طلبنا الاتكاء على الوهم والقناعة، والصبر على أي شيء ولو كان هشا، وطلبنا الستر بأقل الأشياء، وأن تشملنا العناية في الأرض أو في السماء.

غير أن طلب الستر شيءٌ، ونشر أخطائي وحقائقي وأوهامي أمامكم اليوم شيءٌ آخر، شيء آخر إن كان لا يعني سوى الصدق فضيلة واجب وتكليف قد ترتد إليها كل الفضائل الأخرى فهو يقترب، إلى حد بعيد، ولا مفر، من معنى جلد الذات أو التشهير بها، ولذلك فهو حري في طبيعته بأن يبتعد عن معنى الشهرة وعن سكة المجد، لأن الشهرة ُ-كما تعلمون- ما زالت عموما ترتبط بلمعان الصورة لا بخفوتها أو خدش وجهها أو انطفاء بريقها؛ ومع ذلك فإنه لا شيء يمنع فعلا من أن أبسط أنحائي يوما ما على رَبْعٍ فريد قد يُتمِّمُ خرائط المحو والهاوية، أو أن تدخل ألواني وأرقامي ضمن قواميس الغرابة والالتباس أو في دوائر المفارقات والاختلاف؛ هذا إذا اقتضى الواقع ذلك.

قلت الواقع، هل تسمعون؟ وأعني دفتراً للتحملات لا يعرف الإنجاز، ردهاتٍ فسيحة جدا ومغلقة، دوائرَ للالتباس والإعاقة، محترفاتٍ لاصطناع البهجة والتمثيل، صخورا ناتئة للقفز عبر المضايق، شللَ القامات الطويلة، وخزاً بإبر السموم على مفاصل الجسد وكَيّاً بالمطارق، مخاضَ الولادات العسيرة، هتكَ الأنواع واغتصاب السلالة.

والرضى! ما له الرضى إن استطعتم إليه سبيلا؟ فهو ليس كما تنظرون: قبة للذهول السهل الممتنع، أو مقصورات للصبر والراحة. مسالك لخفض المسافة بيننا وبين إيقاع الوقت. معبر حاد للمصالحة بين الأشياء وأضدادها.

والقوة! ما لها القوة؟ آه إنها القوة دائما، إنها السلطة دائما، ليس عليها اختلاف، تدور عليها الدوائر وتتبدل الأحوال ولا تتبدل: ثقل الأرض ومخ العظام واستقامة أخرى. ميزان يرجِّح اختلال العدالة. هبة كونية للعدل بين الأقوياء. ساحة كبرى للحرب والسلم. عتاد مشمول بالندرة والنفاذ، وشر لا بد منه إن استطعتم إليه سبيلا. لكنْ مع ذلك هل تعرفون شيئا أجمل إحساسا من العفو عند المقدرة، وأدعوكم إلى تجريبه، فهذا -من بين أشياء أخرى- مناطُ العمل والفضيلة والواجب، وشرط الاجتماع والعمران.

وأخيرا سلاماً لأمجادنا وحضارتنا، لآبائنا وأجدادنا ومعلمينا، لأهالينا وأصدقائنا ومواطنينا، لمبدعينا وشعرائنا.

سلاما للشمس وهي تشرق من بعيد وراء البحار قد تضيء سحابة الأيام.

سلاما للإنسان وحضارته في كل مكان.

سلاما للشعر والفن والفلسفة والدين والعلم في كل مكان.

سلاما للمستقبل، لقافلة تمتطي الغيب وتغزو المجهول، ترسم في الجو علامة، تثير الغبار، وتجتذب الصغار، وتحمل الكبار.

سلاماً إن نسيت أو أخطأت سلاما.

آه اسمحوا لي، فقد أنستني كثرة الكلام إليكم والسلام عليكم حلقة الوصل بين السابق واللاحق، وأخذني الانفعال والتأثر حتى نسيت أن أخبركم ببقية الحكاية وعودة أشواقي إليكم، فإلى بيان آخر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Shopping Cart